الدرس الأول:
أين نشأت القصة القصيرة..؟
على وجه التحديد لا يمكن لباحث أن يقر بالموطن الذينشأت فيه القصة القصيرة؛ وذلك ببساطة لأن الحكي خصيصة إنسانية فهي "حكاية"أو "حدوتة" أو "قصة" كانت دومًا في وجداننا حتى صارت جنسًا أدبيًّامتميزًا ونظَّر النقاد والأدباء لهذا الفن وأصَّلوه..
ويتعلم الطفل الحكي كما يتعلم النطق والمشي والغناء، فالجدة هي أمهرالقُصَّاص في حياتنا إلى اليوم، وهي قصاص ذكي يحكي حسب حالة المتلقي،فتكافئنا بالحكايات الرومانسية الخيِّرة أو ترعبنا بالأسطورة الموحشة.
والقصة القصيرة باعتبارها نشاطا إنسانيا فإننا لا يمكن أن نحدد لها موطنابدقة، وإن كان أهل كل حضارة يتنازعون بأحقيتهم في القصة باعتبار ولادتهامن رحمهم، وإذا تجاوزنا الأساطير باعتبارها تمهيدًا للفن القصصي، فإننانجد أن عالم الحيوان كمادة للحكي، كان اعتمادًا أساسيًّا في قصص الأممكلها، فكليلة ودمنة الهندية أو الأمثال العربية أو حتى القصص اليونانيةوالإغريقية كل ذلك مَثَّل الحيوان فيه دورًا رئيسًا.
هل نشأت في الشرق؟
كثير من الباحثين يرون أن القصص الأوربية في عصر نهضة أوروبا تأثرت كثيرابالأدب الفارسي ومن هذه الأشكال "الفابولا" أحد الأجناس الأدبية الأولىللقصة، وقد ظهرت في فرنسا منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي وحتى أوائلالقرن الرابع عشر، وهي أقصوصة شعرية تحمل روح ومعنى الهجاء الاجتماعي.
ومن هؤلاء "جاستون بارى" أستاذ الأدب المقارن الذي يقول عن الفابولا: إنهااستمدت عناصرها وروحها من كتاب "كليلة ودمنة" الفارسي الأصل، والذي ترجمهابن المقفع، وكانت فكرته الأساسية هي الحكم والفلسفات التي تقال على ألسنةالحيوان، وتعتبر الترجمة العربية لـ"ابن المقفع" أساسا مباشرا أخذت عنهالفابولا".
ومن أمثلة الفابولا الغربية أقصوصة تسمى "اللص الذي اعتنق ضوء القمر" تحكيعن لص يخدعه أحد الأشخاص بأن للقمر سحرا خاصا في نقل الأشخاص دون صوت منمكان إلى آخر، ويصدق اللص الخدعة، ويقع في يد الشرطة، ونجد هذه الأقصوصةنفسها بالكيفية والفكرة والتفاصيل الدقيقة نفسها في كتاب "كليلة ودمنة"لابن المقفع.
وللقصة العربية تاريخ طويل، فالأمثال العربية هي "قصص" في إطار محكم،وتذكر المصادر بعض القصص العاطفي القديم كمثال علي البداية المبكرة لظهورالقصة القصيرة في التراث العربي، مثل قصة زنوبيا، وقصة المُرَقَّش الأكبرمع أسماء بنت عوف، كما كان لهم قصص تاريخي اسْتَقَوه من أيام العربوبطولاتهم وأعملوا فيه مخيلاتهم.
وإذ نلحظ بوضوح تسلل القصص إلى ثنايا كتب التراث مثل "التِّبْر المَسْبوك"للغزالي أو "سراج الملوك" للطرطوشي إلا أنها لم تكن إلا قصصا وعظية ماأريدت لذاتها إنما أريدت لأثرها التربوي والتعليمي، كما أنها لم يُفْرَدلها مؤلَّف خاص بالقصص القصيرة، قبل كتاب (الفرج بعد الشدة) لأبي بكر ابنيحيى الصولي وفيه قصص محكمة النسج، قوية العقدة، سعيدة الخاتمة، متنوعةالأغراض.
كان ذلك حتى برع أحد كتاب الطولونيين بمصر (ابن الداية) فألَّف (المكافأة)وهو عبارة عن 71 قصة موزَّعة على ثلاثة أقسام: الأول عن حسن الصنيع،والثاني عن مكافأة الشر بمثله، والثالث حول حسن العُقْبى.
ومن أشبه الأجناس بالقصة القصيرة في أدبنا العربي "المقامة" التي تعتمدعلى المحسنات اللفظية والبديعية في الأساس، وللمقامات بطل واحد في كافةالأحداث وهو دائمًا يعتمد على الحيلة والذكاء للتخلص من مآزق يضعه المؤلففيها، والبطل مثل أبي زيد السروجي عند الحريري أو أبي الفتح السكندري عندمؤلِّفه أبي البديع الهمذاني شخصية تجمع بين الدهاء وطيبة القلب وحبالأسفار وهي أقرب إلى الفكاهات الاجتماعية.
بدايات القصة الحديثة تأثرت بالقصص الشرقية
أول لون من القصة عرفته أوروبا في العصر الوسيط كان كتاب (التربيةالدينية) ليهودي أندلسي يدعى (موسى سفردي) اعتنق الكاثوليكية 1106موسَمَّى نفسه (بدرو ألفونسو)، وأغلب الظن أنه كتبها بالعربية ثم ترجمهاوهي خليط من كليلة ودمنة والسندباد البحري وغيرهما، وكان هذا هو مَعْبَرأوروبا إلى القصة، وهو جسر عربي واضح المعالم باعتراف نقاد الغرب أنفسهم،وباقتصار القَصّ الأسباني على الوعظ والتربية، نما القص الإيطالي في القرنالرابع عشر داخل حجرة فسيحة في الفاتيكان أطلقوا عليها: "مَصْنعالأكاذيب"، اعتاد أن يتردد عليها العاملون في الفاتيكان للَّهو والتسليةوإطلاق القصص المختلفة عن رجال ونساء الفاتيكان حتى دوَّن أحدهم (بوتشيو)هذه القصص وسماها "الفاشيتيا"..
وفي القرن السادس عشر انتشرت في أسبانيا وإيطاليا وفرنسا قصص الرعاة، وهيقصص تمجِّد الحب العذري وأخلاق الفرسان وحياة البداوة متأثرة بوضوح بقصصالعرب (محور الحضارة وموضة العالم آنذاك!)، حتى خبا وهج القصة القديمة فيالقرن 18 الميلادي وكادت تندثر بتأثير إهمال الأدب في العالم كلهوالاهتمام بما هو مادي ملموس فحسب.
القصة الحديثة أوروبية خالصة
ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ انتشار الصحافة وانتشر معها الفن القصصي،ودخول القصة معترك السياسة أعطاها حيوية ومضيًّا كسلاح لا يُفَلّ، ودخلتفي الصراع الاجتماعي والديني حتى أصبحت مناضلة دون مقصدها تتنفس بالشكوىوالتمرد، وتصارع مع البسطاء قسوة الحياة وغلظتها، ويكفي أن نذكر أسماء ذاتاعتبار لندرك كيف أن هذا القرن هو قرن القصة القصيرة:
موباسان – تشيخوف - إدجار آلان بو – جوجول- أوسكار وايد- دوديه – هوفمان.
وملخص القول في هذه القضية ما يؤكده الناقد الأدبي د. عبد المنعم تليمة(الأستاذ بكلية الآداب – جامعة عين شمس بمصر) أن العرب لم يأخذوا القصةالحديثة عن أوربا، فـ(القَصّ) جذوره ممتدة في التراث العربي.. أما القصةالقصيرة بشكلها الحديث الذي وصلت إليه فهي نتاج أوربي بلا مراء، ولكنالعرب لم يتخلفوا عن ركب القصة القصيرة؛ لأننا أبدعنا في هذا المجال فيعصر موازٍ للإبداع الغربي، ودعوى سبق أوربا لنا لا تقوم؛ لأن الفارقالزمني بيننا وبينهم لا يتعدى عشرات من السنين، وهذا -في رأيه- ليس زمنًاطويلاً ولا عصرًا كاملاً.