موضوع: عالمنا الصغير.. بقلــــــــم د/ أحمد خالد توفيق الجمعة 10 ديسمبر 2010 - 21:12
عالمنا الصغـيـر
يتعود الإنسان حدود عالمه الضيق المحيط به، فيعتبر هذا هو الكون نفسه.عندما كنت في المدرسة كان المعلمون يلعبون في حياتنا بالضبط ما يلعبه رئيسالولايات المتحدة ورئيس فرنسا على الصعيد الدولي.. نفس الأهمية والخطورة.
وكنا نتشاجر حول تعريف(الفولتامتر العياري) أو (قاعدة أورستد)، كأننا نناقش أسرار الكون ذاتها،بينما الأمر لا يتجاوز حدوده: مجرد مدرسة ثانوية صغيرة في مدينة صغيرة.
يوبخني أبي أو تمرض أمي فيكونهذا هو (يوم التوبيخ العالمي) أو (الذكرى السنوية للمرض). كل شيء بالغالأهمية ويؤثر في حركة أجرام السماء نفسها.
أعمل في مستشفى كبير يستقبل مئاتالحالات يومياً. كنت أمشي في طرقاته متجهاً إلى القسم الذي أعمل به عندمااستوقفني ذلك الفتى.. فتى يبدو أنه ريفي من القرى المحيطة بالمدينة. اتجهنحوي في ثقة وبخطورة سألني:
ـ«كيف حال العمدة اليوم»؟
العمدة؟.. إن المستشفى يستقبلثلاثين عمدة على الأقل كل يوم. لابد أن هناك في هذه اللحظة عشرين عمدة فيقسم الجراحة والعناية المركزة.
لكن الفتى من قرية، وبالطبع أهمشخص في قريتهم هو العمدة.. بالتأكيد يحسب أن سيارات الإسعاف راحت تعويوأضواء حمراء راحت تضيء في كل مكان من المستشفى، بينما صوت مذعور من مكبرصوت يردد:
ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة) هنا في المستشفى!.. يتم إلغاء الإجازات واستدعاء الأطباء»!
ولابد أننا رحنا نركض مذعورين، بينما وقف مدير المستشفى يجفف عرقه ويصرخ فينا:
ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة).. أنتم تعرفون ما يجب عمله!.. لا أريد أخطاء!»
وهكذا يعمل المستشفى كله على قدم وساق من أجل المريض المهم. وفي كل لحظة يأتي تقرير بالحالة:
ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة) قدارتفعت حرارته.. عمدة قرية (كفر الغلابة) يشكو من صداع.. عمدة قرية (كفرالغلابة) يشكو من أن الوسادة غير مريحة»..
فنهرع كي ننقذ الرجل..
لم أستطع أن أخبر الفتى أنني لا أعرف عمدة قريتهم.. لذا قلت له في تحفظ:
ـ»بخير. لكن حالته ما زالت خطرة»..
قال بصيغة آمرة مع لهجة تهديد لا شك فيها:
ـ«أرجو أن تهتموا به أكثر»..
ثم انصرف ماشياً بثقة كأنه صاحب المستشفى.. يكفيه أنه من ذات القرية التي صار العمدة عمدة لها..
عندما كنت طالباً، كنت الوحيدالذي يدرس الطب في أسرتي، لهذا اكتسبت أهمية مبالغاً فيها. كان أحد أقاربيالمسنين يريد خدمة ما من المستشفى لذا طلب أن يذهب معي. بدأت المشاكل علىالباب عندما قال للعامل الذي يحرس البوابة:
ـ«هذا هو الدكتور (أحمد)»..
قالها وهو مندهش لأن العامل لميجث على ركبتيه ويظهر لي آيات الاحترام. لقد صار العمال وقحين على مايبدو. كانت هناك مجموعة من الممرضات فاتجهت نحوهن أسألهن عن طبيب معين،فردت علي إحداهن في غير اكتراث ثم ابتعدت مسرعة.
قال قريبي في غضب:
ـ«ما هذه الوقاحة؟.. كان يجب أن يقفن في إجلال بانتظار أن تأمر واحدة منهن»..
طبعًا كنت أحاول في صبر أن أفهمهأنني مجرد طالب طب.. لست مدير المستشفى، ولا وزير الصحة ولا مدير منظمةالصحة العالمية، ولا أحد يعرفني على الإطلاق هنا .. لكنه كان سجين عالمناالضيق، حيث أنا أهم شخص في العالم.
لن أحكي لك عن خيبة أمله المتكررة.. حتى اقتنع في النهاية بأن العاملين في المستشفى وقحون جداً ، وأنا ضعيف الشخصية عديم التأثير.
مع الوقت تدرك أنك موظف صغير فيبلدة صغيرة.. وهذه البلدة توجد في بلد من العالم الثالث.. وهذا العالمالثالث يوجد في كوكب صغير اسمه الأرض.. الأرض كوكب في مجموعة شمسيةصغيرة.. والمجموعة الشمسية ضمن مجرة صغيرة في الكون الفسيح...
قل لي بربك: كيف أعرف أخبار عمدة (كفر الغلابة) بعد هذا؟
د. أحمد خالـــــــد توفيق
دودو951753 عضو
تاريخ التسجيل : 06/12/2010
العمر : 34
موضوع: رد: عالمنا الصغير.. بقلــــــــم د/ أحمد خالد توفيق الأحد 12 ديسمبر 2010 - 16:44