بعد أن توجَّه الخطاب القرآني إلى بني إسرائيل - والعلماء منهم خاصة - بالترهيب والإنكار والتوبيخ على ما كان منهم؛ انتقل إلى أسلوب الترغيب والتحفيز، فجاء الأمر بالاستعانة بالصبـر، إذ به ملاك الهدى والسداد؛ وجاء الأمر بالاستعانة بالصلاة، إذ بها الفلاح والرشاد .
وبيان ذلك: أن مما يصد الناس عن اتباع الدين القويم إلفهم بأحوالهم القديمة، وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها، فإذا تخلَّقوا بأخلاق الصبر سهل عليهم اتباع الحق، ومفارقة ما أَلْفَوْه من عادات جاهلية، وأعراف لا يقرها الشرع الحنيف .
ومن هنا جاء الأمر لبني إسرائيل بالاستعانة بالصبر على الوفاء بما عاهدوا الله عليه في طاعته واتباع أمره، وترك ما يميلون إليه من الرياسة وحب الدنيا، ومن ثم التسليم لأمر الله، واتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
وحسبك بمزية الصبر أن الله جعلها سببًا من أسباب الفوز، قال تعالى: { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } قال الغزالي رحمه الله: ذكر الله الصبر في القرآن في نيِّف وسبعين موضعًا، وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر، وجعلها ثمرة له، قال سبحانه: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا } (السجدة:24) وقال تعالى: { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا } (الأعراف:137) وقال أيضًا: { إن الله مع الصابرين } (البقرة:153) والآيات كثيرة في هذا المعنى .
وأنت - قارئي الكريم - إذا تأملت وأمعنت النظر، وجدت أن أصل التدين والإيمان راجع إلى الصبر؛ فإن فيه مخالفة النفس هواها ومألوفها في التصديق بما هو مغيب عن الحس الذي اعتادته، وفيه طاعة خالق لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار؛ فإذا صار الصبر خُلُقًا لصاحبه، هان عليه كل شيء لأجل الخضوع للحق والتسليم للبرهان. وبهذا يظهر وجه الأمر بالاستعانة على الإيمان وما يتفرع عنه بالصبر، فإنه خُلُق يفتح أبواب النفوس لقبول الحق والخضوع له .
أما طلب الاستعانة بالصلاة، فهي فضلاً عن كونها شكرًا للمنعم وخضوعًا لأمره، فإن فيها صبراً من جهات عدة؛ إذ فيها مخالفة حال المرء المعتادة، ولزومه حالة في وقت معين، وفيها تجلية الأحزان وكشف الكربات؛ وقد صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه ( كان إذا حَزَبه أمر صلى ) رواه أبو داود و أحمد ، أَي: إذا نزل به أمر مُهِمّ، أَو أَصابَه غمّ وهمٌّ واشتد عليه بادر إلى الصلاة؛ وقوله عليه الصلاة والسلام: ( أرحنا بها يا بلال ) رواه أبو داود و أحمد ، وهذا أمر يلمسه من تحرَّاه وقصده من المصلين، ويكفيك في ذلك قوله تعالى: { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ففي الصلاة أكبر العون على الثبات في الأمر، والعزيمة في الرشد .
ثم إن الآية التي بين يديك، نظير قوله تعالى مخاطبًا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده: { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى } (طـه:130) فأَمَرَ سبحانه نبيه في نوائبه كافة بالفزع إلى الصبر والصلاة، إذ بهما العون والثبات وكشف الهموم والكربات .
والضمير في قوله تعالى: { وإنها لكبيرة } راجع - على أرجح الأقوال - إلى جميع المأمورات والوصايا السابقة التي خوطب بها بني إسرائيل .
والمراد ( بالكبيرة ) هنا الصعبة التي تشق على النفوس؛ وإطلاق ( الكِبَرُ )على الأمر الصعب والشاق أمر معهود في كلام العرب؛ لأن المشقة من لوازم الأمر الكبير، قال تعالى: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } (البقرة:143) وقال سبحانه: { وإن كان كَبُرَ عليك إعراضهم } (الأنعام:35).
وقوله تعالى: { إلا على الخاشعين } الخاشع هنا هو من ذلل نفسه وضبط شهوتها بضوابط الشرع الحنيف، فتصبح النفس حينئذ مطاوعة لأمر الله، راغبة في أمره وراهبة من نهيه، وهذا الوصف في الآية يشبه ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه ) رواه الترمذي و أحمد ؛ والمعنى على ما تقدم: أن الاستعانة بالصبر والصلاة ليس بالأمر اليسير على الأنفس، بل هو خاص بالنفوس الخاضعة لطاعته سبحانه، والمصدقة بوعده، والخائفة من وعيده .
على إن الآية وإن كانت خطابًا في سياق إنذار بني إسرائيل وتهديدهم، بيد أن خطابها ليس خاصًا بهم وحدهم فحسب، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول أهل العلم، يُنبئك بهذا قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين } (البقرة:153) وعلى هذا فإننا اليوم - نحن المسلمين - أولى الناس بوعي هذا الخطاب القرآني، والعمل به، خاصة بعد ما آل أمر الأمة إلى ما لا يخفى. نسأل الله التوفيق والعون والفرج والخاتمة بالحسنى
منقـــــــــــــــــول