عن "إدجار آلان بو":
كان علماً مميزاً في الأدب الأمريكي، ولد في بوسطن وإن كان لا ينتمي إلى
مجموعة المؤلفين فيها، أمضى جانباً كبيراً من حياته في "نيويورك"، ولكنه
لم يتأثر بأي من الأشكال الأدبية التي سادتها.
ظل فريداً شاعراً وناقداً وقصاصاً وخارج دائرة الأدب الأمريكي، علم وافد من
العالم القديم، وزهرة دخيلة وعبقة بين زهور أمريكا البرية الشائكة، وليس
ثمة أمريكي ممتاز يصعب الوصول إلى ترجمة حقيقية له مثل "ألن بو".
لا تصدقوا "بو"!
اعترافاته التي تكلم فيها كثيراً عن نفسه، لا يوثق فيها كثيراً، يكفي أن نعلم أنه أعطى ثلاثة تواريخ متباينة لمولده مختلفة ومتباعدة!
وكان مزهواً بفوضى شبابه فيما يبدو وأطراها دائماً ما استطاع واختلف فيه الدارسون بين إطراء يبلغ قمة المجد ونقد يتجاوز حد العداء!
رحلة مع الأيام:
ولد في بوسطن 19 يناير 1809 لأب ضابط ثائر، تخلى عن حقوقه ليصبح ممثلاً من الدرجة الثانية، وأم ممثلة ممتازة.
في العام الثالث من مولده توفي والداه بداء السل، وتركا وراءهما ثلاثة أبناء
على باب الله، أكبرهم في الخامسة من عمره، وقد أثار موقفهم المحزن عاطفة
الشفقة عند جار لهم، وكان من تجار الطباق الأغنياء، فاختار "إدجار" وهو
أوسطهم وكان طفلاً جميلاً فتبناه.
وبعد ذلك جرى كل شيء في صالحه، حمله أبواه بالتبني إلى إنجلترا وهو في السادسة
من عمره، وأدخلاه مدرسة خاصة في ضواحي لندن، أمضى فيها خمسة أعوام، وعندما
عادوا إلى الولايات المتحدة واصل تعليمه على يد عدد من المدرسين
الخصوصيين، حتى إذا بلغ الثامنة عشرة من عمره دخل جامعة فرجينيا 1826.
وفي هذه السنة نفسها اندفع يقترض بلا حساب، ورفض متبنيه أن يسدد ديونه، وغضب
عليه وأخرجه من الجامعة، وألحقه موظفاً بمكتب جار سابق لهم، ولم يعجبه
العمل فتركه وعاد إلى بوسطن.
أول ديوان شعر:
وفي بوسطن نشر ديوانه الأول بعد قليل، ديوان شعر صغير، محدود القصائد، ثم
انتظم في سلك الجيش عام 1827 لمدة سنتين، بلغ فيها درجة "رقيب"، وسمع أن
والدته بالتبني توفيت، فذهب لتعزية زوجها، وعفا هذا عنه، وتوسط له أن يدخل
الكلية الحربية، ولكنه طرد منها بعد عشرة شهور لسوء سلوكه!، فتنكر له أبوه
بالتبني من جديد، وعندما توفي بعد قليل، وفُتحت وصيته، تبين أنه تجاهل
"إدجار" تماماً ولم يوص له بشيء.
ولم يلبث أن رحل إلى بلتيمور، شدته إليها شاباً طموحاً، وكانت عاصمة الجنوب الأدبية وقتها.
ولكن أعماله الأدبية الأولى لم تصادف نجاحاً يذكر، إلى أن نال جائزة القصة القصيرة عام 1833 م.
"جون كيندي" يقول كلمته:
وفيما بعد قال "جون كيندي" وكان أحد أعضاء اللجنة التي فحصت أعمال المتقدمين:
"إن بو كتب قصصه في خط جميل للغاية كما لو كان طبعها وجلدها في أناقة وأن
اللجنة منحته الجائزة متأثرة بهذا الجانب الشكيلي إلى حد كبير".
وقد قدم ست قصص اختار منها واحدة للنشر بعنوان "المخطوطة وجدت في زجاجة "وعاش
على امتداد عامين مع خالة له، ثم توسط له "جون كيندي" لكي يعمل في المجلة
الأدبية التي تصدر في المدينة، وما لبث أن اختص بتحريرها وحده.
قصة الحب الوحيدة في حياته:
وفي عام 1833 تزوج من ابنة خالته، فتاة جميلة وغضة، في الرابعة عشرة من عمرها،
في حبه لها وجد شعاعاً مضيئاً أشرق في أعماقه وأنار حياته الحزينة، جاءت
لتفتح له أبواب السعادة والنجاح والمستقبل، وأدركت معه المجلة ذيوعاً
واسعاً، وحملت معها شهرته ناقداً وقصاصاً، ولكنه رغم ذلك بعد ثمانية عشر
شهراً تركها وعاد لتشرده من جديد!
وأمضى في "فيلادلفيا" خمسة أعوام، عمل محرراً في بعض صحفها، وانتقل إلى نيويورك
ليعمل في المهنة نفسها، وقر رأيه على أن يستقر فيها، ولكن عاداته السيئة
حالت بينه وبين الاحتفاظ بأي وظيفة لمدة طويلة.
نهاية محزنة:
وبين
ألوان الشقاء والشهرة التي تحاصره من كل جانب، ماتت زوجته عام 1847 مما
أثر علـى حياته تأثيراً هائلاً، وطبع روحه بمسحة من الشرود والألم لم تنمح
حتى آخر أيام حياته.
وعلى الرغم من أدبه والإقبال عليه، وعمله القاسي، رأى نفسه مضطراً لقبول المساعدات المالية!
وبعد
وفاة زوجته بدا نصف مجنون، وسقط نهائياً في عالم اللامبالاة، وبعد عامين
بدأ يلاحق إحدى صديقات طفولته، يريد أن يتزوجها، فلما وافقت، رحل إلى
الجنوب لينهي إجراءات الزواج، ولكن ما أن التقى برفاقه القدامى في بلتيمور
حتى أغرق نفسه في الشراب من جديد، كان يسكر حتى البلادة، وبعد أيام، وجدوه
فاقد الوعي تماماً، وما لبث أن توفى في 7 أكتوبر 1849، وله من العمر واحد
وأربعون عاماً فقط.
"بو" وفن القصة القصيرة:
كان "بو" شاعراً وناقداً وقصاصاً، ويهمنا من إبداعه الجانب الأخير فحسب، وهو
الذي أجاد فيه وتميز، وامتد به الخيال عبر أرجائه، وجاءت قصصه كلها قصيرة،
بعضها تحليلي والآخر خيالي، وأغرم فيها بالمناظر العابسة، والقلاع
الشهباء، والمباني القديمة، التي انهارت تماماً أو لم يبق منها سوى
البقايا!
تقنية "بو":
وكان يستخدم تقنية رياضية تبدأ من وصف المناخ الهادئ، وتنطلق بالقارئ في نعومة
في عالم مجنون، وانفعالات متوترة، وبؤس قاتم، وتترك في أعماقه شيئاً
غامضاً ومرعباً، والموت وحده هو الذي يربح في نهاية المشوار!
عناوين قصصه:
وحتى عناوين قصصه جاءت قاتمة، مقبضة، وغريبة كذلك، تثير في النفس رعباً وقلقاً
مبهما، قدر ما تثير من أسئلة، وتشوق القارئ سريعاً للغوص بين ثناياها.
أمثلة:
هدف القصة عنده:
ولا تخدم القصة عنده أي هدف غير أن تجمد الدم في العروق، ومع ذلك فهو ينمي
فكرته في مهارة عالية، ويحمل القارئ إلى النقطة الحاسمة، يثير أعصابه
تماماً، ولا يفكر في غير التأثير الذي يحدثه في أعماق قرائه، وكانت وجهة
نظره التي دافع عنها طويلاً: "إن التهذيب ودروس الأخلاق لا مكان لها على
الإطلاق في الإبداع الفني".
عالم يموج بالرعب:
ورغم أن عالمه يموج بالرعب والمآسي فإنه جميل، أخاذ، وهذا المزج المحكم بين
الرعب والجريمة والمعاناة، يدفع بالحزن إلى أعماقنا، على غير إرادة منا،
ويجعل منا رومانتيكيين حتى لو كان كل ما حولنا من شقاء يشدنا إلى الواقع
الأليم شداً.
مع النقاد:
ولم يحدث أن عرى النقاد الأمريكيون مؤلفاً أمام الجمهور ليروا كل نقائصه كما
فعلوا مع "بو"، لقد ضغط عليه كثيراً الناقد "جريزولد Griswold" وهو أول من
كتب سيرته، ولكن الكتـاب المتأخرين كانوا أكثر موضوعية، ويقول عنه "ولز
Willis" الذي عرفه عن قرب: "كان منضبطاً ومجتهداًَ، هادئاً وصابراًَ،
فارساً ومحترماً ولطيفاً".
تكريم مستحق:
في عام 1885 رًُفعت في متحف الفن الحديث في نيويورك لوحة تذكارية لـ"بو" كتب
عليها: "كان عظيماً فـي عبقريته، تعساً في حياته، بائساً في موته، ولكن
شهرته ستبقى إلى الأبد".